سورة الناس
الملخص: بسم الله الرحمن الرحيم {قل أعوذ برب الناس. ملك الناس. إله الناس. من شر الوسواس الخنّاس. الذي يوسوس في صدور الناس. من الجنة والناس}.
\r\nالحلقة الاولى:
\r\nهذه السورة المباركة، وهي المعوّذة الثانية، في الواقع صفحة أخرى من صفحات التربية العقائدية السليمة للإنسان المؤمن. عندما يعلّمنا الله على لسان الرسول أن نلجأ الى الله. ويعبّر عن الله برب الناس، وملك الناس، وإله الناس. وبمعزل عن الأبحاث الفلسفية والتفسيرية فالفرق بين الرب والملك والإله واضح. فرب الناس هو الذي خلق وربّى، أي هو المؤسس لذات الإنسان، ولنفس الإنسان، وإحساسه، وصفاته، وتربيته التي بها يكون الإنسان إنساناً. والملك، هو الحاكم. والإله هو المعبود، طموح الإنسان، مبدأ الإنسان، ونهاية الإنسان، والصفة التي يجب أن يعيش عليها الإنسان لكي يكون عابداً منسجماً مع العبادة.
\r\nنتذكر الآية الكريمة {رب المشرق والمغرب لا إله إلاّ هو فاتخذه وكيلاً} (المزّمّل: 9). إذاً نحن نلجأ الى الله، الله الذي له كل الصفات. ويذكر القرآن الكريم بصورة خاصة صفات ثلاث: الرب، والملك، والإله. يقول لنا: إلجأوا الى رب الناس وملك الناس، وإله الناس من الشرور التي تخشَونها.
\r\nفي هذه السورة، ينقل القرآن الكريم صورة أخرى عن الشرور، تختلف عن الشرور التي وردت في السورة السابقة. ففي السورة السابقة تحدّث القرآن عن الشر البارز، والشر الخفي. فالشر: إما بارز، وإما خفي. عندما كنا نلجأ الى الله، رب الفلق من شر ما خلق: الشر البارز. ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد. ومن شر حاسد إذا حسد: شرور خفية. إذاً، كان المطلوب أن نلجأ الى الله من الشر البارز، ومن الشر الخفي.
\r\nأما هذه السورة فتعلّمنا أن نلجأ الى الله من الشر الذي ليس بارزاً كل البروز، ولا هو خفي كل الخفاء. الوسواس الخناس. بمعنى أنّ الإنسان يجد نفسه أمام تأثيرات باطنية تأتي وتذهب. فمعنى الخنّاس الذي يختفي بعد ظهوره. الموجود الذي يظهر، فيهمس في نفس الإنسان، يحرّضه، يخوّفه، يغريه، يهدده، ثم يختفي. ثم يظهر في حالة أخرى. هذا الشر الذي يتراوح بين الحضور والخفاء، نلجأ منه الى الله.
\r\nوهنا نقف عند نقطة واضحة تربوية، تؤكد أنّ هذا الشر الذي يتراوح بين الوضوح والخفاء، نلجأ الى الله بصفاته الثلاث: رب الناس، ملك الناس، إله الناس. بينما التجأنا من أربع شرور في سورة "الفلق"، ثلاثة منها خفية، وواحد منها واضح، إلتجأنا من أربع شرور الى الله بصفة واحدة، فاستعذنا برب الفلق من كلها. ولكن هنا نلجأ بصفات ثلاث من الله من شر واحد. وهذا معناه أنّ هذا الشر أخطر من الشرور السابقة. لأنّ الشر هذا ليس واضحاً لكي نواجهه ولا خفياً لكي نتحذر، ونتجنب، ونأخذ التدابير المطلوبة. شر آني يختفي بعد الظهور، ويخلق للإنسان متاعب غير منتظرة. وعلى كل حال، نلجأ الى الله من شر الوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس. باعتبار أنّ القلب، رمزياً في الصدر، عندما يخلق الخنّاس في القلب. والقلب في المصطلح القرآني مصدر فاعلية الإنسان. في القلب يوسوس، فيخلق وهناً في العزيمة، وجبناً في موقع الجرأة، وتردداً في موقع الحسم، وشكوكاً في موضع ضرورة الوضوح. الإنسان يضعف ولا يتمكن من ممارسة الأعمال. فعليه أن يلجأ الى الله، وهو ربه، وملكه، وإلهه. وعند ذلك، يتمكن من أن يجد في نفسه صفة هي من تربية الله، وإرادة هي من مالكية الله، وملكية الله. وامتداداً وطموحاً وبعداً من ألوهية الله.
\r\nإله الناس، ملك الناس، رب الناس، يحيط بنا من كل جانب. فينجينا من شر التردد، والجبن، والشكوك، والأخطار التي تختفي بعد الظهور، وتظهر بعد الخفاء. وبذلك نعالج المحنة فنطمئن، ونضع حداً لها، حيث نضع أنفسنا في منأى من هذه الشرور. من الطبيعي أنّ البحث بحاجة الى مزيد من التأمل. سنتحدث فيه في الحلقة القادمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
\r\nالحلقة الثانية:
\r\nكنا نتحدث عن خطر هذا النوع من الشر، الذي يختفي بعد الظهور: الوسواس الخنّاس، الذي يوسوس في صدور الناس. وكنا نقول: إنّ هذا الخطر أخطر من الشر البارز، ومن الشر الخفي.
\r\nفي الواقع، إنّ أمثلة هذا الشر كثيرة. فالنفاق عند الإنسان، والمنافقون داخل صفوف مجتمعنا، أنواع من الوسواس الخنّاس، الذي يوسوس في صدور الناس. كل مَن يخلق تردداً، أو شكوكاً، أو جبناً، أو ضعفاً في طريق الحق، بأساليب ملتوية، يجب أن يحارب. ومحاربته بأن نلجأ الى ربنا، وملكنا، وإلهنا. لا رب لنا غيره، ولا إله لنا سواه، ولا ملك لنا إلاّ إياه.
\r\nإذاً، نحن نلجأ الى الله. واللجوء بالمعنيين اللذين تحدثنا عنهما تكراراً في هاتين السورتين المباركتين.
\r\nنلجأ الى الله، بمعنى نستمد العون والقوة، لتطمئن قلوبنا بذكره. ونلجأ إليه، أي نتقرب منه، فنعمل بمقتضى تربية الله، وحكم الله، وعبادة الله، نطهر أنفسنا ونطهر صفوفنا. نستعرض صفاتنا لكي نجد ما هي الصفة، التي يدخل من خلالها الوسواس الخنّاس. ما هي نقطة الضعف في نفوسنا التي تجعل منا مترددين، خائفين، موسوسين، جبناء في وقت العزيمة. ونستعرض صفوفنا كأمة، كوطن، كمجتمع، كمؤسسة، لكي نطهرها من المنافقين. نقاط الضعف، الوسواس الخنّاس الذي يوسوس فيخلق فتنة في نفوس الحاضرين، ونفوس العازمين، ونفوس المقبلين على عمل معيّن.
\r\nويتابع القرآن الكريم، في تعميم هذا النوع من الشر، فيقول: {من الجنّة والناس}. هؤلاء الموسوسون الخنّاسون، قسم منهم بارزون، وقسم منهم ليسوا بارزين. فهم من الناس، ومن الجن. الجن بمعنى العنصر الخفي. إذاً، هناك شرور تأتي بشكل الخفاء بعد الظهور، والظهور بعد الخفاء من الإنسان. يجب أن نعرفه. يجب أن نعرفه ونتجنبه وهناك شر، يأتي من قوى خفية، من موجودات خفية، من عناصر خفية لا نعرفها. يجب أن نتصدى لها، أي أن نحصّن أنفسنا أمام تأثيراتها.
\r\nومعنى الجن في القرآن الكريم معنى عميق وعظيم. فإذا راجعنا القرآن الكريم، في أماكن مختلفة، نجد أنّ كلمة الجن وردت في مجموعة من السور.
\r\nوالقرآن يؤكد أنّ الجن نوع من الخلق، مستور عن حواسنا. إنه موجود، نوعه نوع آخر غير الإنسان. فالإنسان خلق من التراب، من المواد الغذائية التي تتكون كلها من التراب. أما الجان خلقناه من قبل من نار السموم. وأيضاً، نجد أنّ الجن، أنّ معاشر الجن يعيشون ويموتون، ويُبعثون كالإنسان. في سورة الأحقاف آية 18 نقرأ: {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس}. فيهم ذكور، وإناث، يتكاثرون بالتوالد والتناسل. سورة "الجن" تؤكد: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} (الجن: 6). وأنّ الجن لهم شعور، وإرادة، يقدرون على حركات سريعة، وأعمال شاقة، كما تقول ذلك قصة سليمان، وتسخير الجن، وبناء الجن لسليمان القصر. وقضية ملكة سبأ، وأنه {قال عفريت من الجن أنا آتيك به} (النمل: 39) بالصورة التي نعرفها. وأنّ الجن مكلّف كالإنسان. مؤمن وكافر. صالح وطالح. يجب عليه العبادة، وأمثال ذلك من الصفات التي هي صفات الإنسان.
\r\nإذاً، ما هي حقيقة الجن. بإمكاننا أن نقول: موجودات خفية، ما اكتشفناها، ولكنها موجودة. ونحن نعرف أنّ إدراكنا، إدراكنا الحسي، بعيوننا، بأسماعنا، بحواسنا، محدودة بدرجة معيّنة من الذبذبات. الأصوات التي تتجاوز أو تقلّ ذبذباتها الدرجة المتعارفة، لا يمكن أن ندركها، ولا اللون، ولا سائر الأشياء. إذاً، ليس بإمكاننا أن ننفي معنى الجن، والقرآن الكريم يؤكد ذلك.
\r\nوبإمكاننا أن نقول: إنها موجودات خفية، أو بشر غير أنيس، يعني البشر الوحشي، أو البشر الذي هو خافٍ عن الإنسان، الموجود في البلاد كما يريد بعض المفسرين أن يقول. فللجن أبحاث، ومعانٍ تفصيلية لدى المفسرين، لا بد من تخصيص حلقة له. أما الملك، فمن الواضح أنّ القرآن يقصد بالملك، والملائكة مدبروا قوى الخير في العالم.
\r\nوفي نهاية الكلام عن السورتين المباركتين، علينا أن نقول: العوذ بالله فقط، ليس بأحد غير الله. والعوذ بالله، معناه اطمئنان القلب، وسعي الجسد للنجاة. وورود هاتين السورتين في نهاية القرآن الكريم، بعد إكمال القرآن، يعطي معنىً أوسع. فمعنى ذلك، بعد أن اكتمل الحق، واتضحت الصورة، وتكونت الشخصية القرآنية، فليس لك أيها الإنسان المؤمن إلاّ أن تكون صامداً أمام الشرور الخفية والظاهرة، والشرور التي تختفي بعد ظهورها. صمودك باللجوء الى الله، بالتقرب من الله، بالإتصاف بصفات الله. وهكذا، نتمكن من التغلب على الأخطار وعدم السقوط بعد أن نجوت.
\r\nنعوذ بالله (سبحانه وتعالى) من كل الشرور، ونسأله النجاة.
\r\nوالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.\r\n